نزار قباني و الخراف المهضومة دراسة نقدية للشاعر الكبير أحمد عنتر مصطفي - الموقع الرسمي للشاعر و الكاتب الكبير دكتور عبدالغني مصطفي عبدالغني

اخر الأخبار

اعلان

الموقع الرسمي للشاعر والكاتب المصري د. عبدالغني مصطفي عبدالغني

اعلان

أهلا وسهلا بكم في عالم د.عبدالغني مصطفي

الخميس، 16 ديسمبر 2021

نزار قباني و الخراف المهضومة دراسة نقدية للشاعر الكبير أحمد عنتر مصطفي

 نزار قباني و الخراف المهضومة

دراسة نقدية للشاعر الكبير أحمد عنتر مصطفي

 
ليس باستطاعة الدارس للأدب العربي الحديث أن يغفل ما لنزار قباني من سطوة وتأثير على جمهور الشعر العربي. كما أنه ليس لمنكر مهما لج فى الإنكارأن يسلب شاعرنا هذه الميزة الفريدة التي توَّجَته شاعرا جماهيريا في زمن ندر فيه جمهور الشعر بوجه خاص والأدب بصفة عامة. وقد يقف خصوم ألداء للشاعر ينالون منه ويحاولون الإساءة إليه . على أنهم ــ وإن استطاعوا النيل منه أحيانا ــ لم يختلفوا حول مكانته التي تبوأها على خريطة الشعر العربي الحديث، والتي تفرد بها واستأثر ــ جماهيريا ــ دون أقرانه من شعراء العربية المعاصرين.
ولسنا بصدد الحديث هنا عن هذه المكانة . ولا بسبيل عرض أسبابها ودواعيها .. ولكننا نرى أن قضية المرأة التي أخلص في احتضانها منذ ديوانه الأول ( قالت لي السمراء) في سبتمبر 1944 وتلته دواوين الشاعر الأخرى واقتحمت قصائده في جرأة فنية تزمتَ الشرق الفكري والفني ونظرته للمرأة آنذاك .. منذ ذلك التاريخ استطاع نزار أن يضع قدمه على أول الطريق المؤدى إلى الجمهور العريض .. وأن يبدأ هذا الحوار الناجح الذي استمرعلى مدى أكثر من خمسين عاما .. والذي كَوَّنَ له هذه (البروليتارياالشعرية).. على حد تعبيره (أى فى صفوف الناس حيث كانوا .. ومهما كانوا) هذه البروليتاريا التي يفاخر بها نزار فيقول: (أنا شخصيا فتحت مثل هذا الحوار ثلاثين عاما .. أتى شعراء وذهب شعراء ، مات جمهور وولد جمهور .. انحسرت ثقافة وجاءت ثقافة ، أفلست أيديولوجيات وانتصرت أيديولوجيات سقطت مدارس شعرية وازدهرت مدارس شعرية، ولا يزال حواري مع الجمهور حارا وموصولا..) .
ولعل هذه البروليتاريا الشعرية وهذا الحوار الناجح الموصول هو الذي جعل شعر هذا الشاعر مزارا نقديا و بحثيا ومجالا للنظر والجدل طوال حياته و بعد رحيله . ودافعا للنقاش و إبداء الرأي من حين لآخر في إبداعه الشعري الذي احتل مكانةً في وجدان الجمهور لم يزاحمه فيها إلا إبداع محمود درويش الذي بدأ خطواته الأولى على درب الشعر مؤتسيا و مفتونا بنزار قباني كما صرح واعترف بذلك في لقاءات صحفية بدأها في مجلة الطريق اللبنانية في عددها الخاص عن شعر المقاومة في الأرض المحتلة الصادر في أواخر ستينيات القرن الماضي .
المعلم الأول
قرأ نزار قباني تراث الشعر العربي في مختلف عصوره ؛ و تمثَّلهَ و تمثل به ؛ في مواضع كثيرة من شعره و نثره ؛ وأعجب بالشعراء الغزلين خاصة عمر بن أبي ربيعه الذي ورث عنه نرجسيته في علاقته بالمرأة ؛ و جميل بن معمر و غيرهما من شعراء العصر الأموي ؛ فقد تلقى عن معلمه في سنوات التكوين الأولى خليل مردم بك الذي وصفه نزار في كتابه ( قصتي مع الشعر ) بأنه ( من أرق و أعذب شعراء الشام ) حب الشعر العربي ورَبَطَهُ به منذ اللحظة الأولى حين أملى عليه مختارات من تراث الشعر في أول درس من دروس الأدب . و تقديرا وعرفانا بفضله كتب عنه نزار في موضع آخر من الكتاب : " إنني أدين لخليل مردم بك بهذا المخزون الشعري الراقي الذي تركه على طبقات عقلي الباطن .و إذا كان الذوق الشعري عجينةً تتشكل بما نراه و نسمعه و نقرؤه في طفولتنا فإن خليل مردم كان له الفضل العظيم في زرع وردة الشعر تحت جلدي ..وفي تهيئة الخمائر التي كَوَّنت خلاياي و أنسجتي الشعرية " .
وكان طبيعيا أن يقرأ نزار ؛ على هذا المعلم الشاعر ؛ تراث الشعر وفيه المعلقات ضمن ما قرأ ؛ لتختزن ذاكرته إحدى لقطات معلقة امرىء القيس حيث يقول :
فمثلك حُبلى قـد طرقـــتُ ومرضعـــًـا /
فألهيتُهـــــا عن ذي تمائم محـــــــول ِ
إذا ما بكـــــى من خلفهــــا انصـــــرفتْ له/
بشقٍ ؛ وتحتي شقهــــا لم يحـــــــــولِ
ليُعيد إنتاجها من جديد في قصيدته ( مدنسة الحليب ) من ديوانه الأول : قالت لي السمراء :
أطعميــــه من ناهـــــــديك أطعميــــــه
واسكــبي أعكــــرَ الحليــــب بفيــــــــه
والرضيع الزحاف في الأرض يسعى
كـــل أمـــر من حــــــوله لا يعيـــــــــه
أمــــه في ذراع هــــــذا المسجـــــى
إن بكـــــى الدهــــر سوف لا تأتيــــــه
مصادر معاصرة
نستطيع أن نلمح ببساطة تأثر نزار في تلك المرحلة بثلاث قامات في ديوان الشعر العربي المعاصر تأثر بإنتاجها واغترف من إبداعها : بشارة الخوري ( الأخطل الصغير ) و إلياس أبو شبكة ( شاعر الجحيم ) و عمر أبو ريشة . و لنبدأ هنا بأول الشعراء الثلاثة حيث نصطحب القارئ إلى قصيدة لنزا قباني بعنوان (حكاية ) من ديوانه ( أنت لي ) يقول فيها:
كنـت أعــدو فى غابة اللوز لمـــا
قـال عـــنى أمـاه إنـي حلــــــــوه
وعلى سـالفى غفـــــــــا زرُّ وردٍ
وقميـصي تفلتت منــه عــــــــروه
قــال ما قال فالحـــرير جحـــــــيم
فـــوق صـدري والثوب يقطـر نشـوه
و روى لي عن ناهديَّ حكايا
فهما جدْوَلا نبيذٍ و قهوه
أ أنا حلوةٌ ؟ و أيقظَ أنثى
في عروقي ؛ و شقَّ للنورِ كُوَّه
. . . . .
. . . . .
أنـــتِ لن تنكري على احـتراقي
كلنا في مجـامر النـار نســوهـ
ولا نشك للحظة أن مصدرها الأساس قصيدة ( هند و أمها ) لبشارة الخوري التي يقول فيها :
أتت هنــــد تشكو إلى أمهــــــــــــــا فسبحـــان من جمــــع النيريـــــْــــن
فقالت لها إن هذا الضحـــــــــى أتانـــــي وقبلنــــــــي قبلتــــــــــْــين
وفـــرَّ فلمــــا رآنــي الدجــــــــــــى حبانيَ من شعـــــــــره خصلتــــــيْن
وما خافَ يا أمُّ بل ضمني
وجئت إلى الروض عنــد الصبـــاح و ألقى على مبسمي نجمتيْن
لأحجـب نفسيَ عن كـــــل عيـــْـــن
فنادانيَ الروضُ يا روضتي وهــــــــــمَّ ليفعــــل كالأوليْن
فخبَّأتُ وجهي َ .. ؛ لكنهُ
و يا دهشتي حين فَتَّحتُ عيني . . .......... إلى الصدرِ يا أم مَدَّ اليديْن
و شاهدتُ في الصدر رمانتين
فها انا أشكـو إليك الجميـــــــــــــع فبالله يا أم مــــــاذا تريــــــــْـــن ..؟
فقـــــالت وقــد ضحكــــــت أمهـــــا وماســت من العجــب فى بردتيْن ـ:
عرفتهـمُ واحــــــدا واحــــــــــــــدا وذقـــــتُ الذى ذقتــِه مرتـــــــيْن !!
أما إلياس أبو شبكة فقد تأثر به نزار, ووقع تحت عجلات شعره خاصة مجموعته الشعرية : ( أفاعي الفردوس ) حيث خلبته تلك النزعة الحسية التي تتفجر في أبيات قصائده مثل قصيدته ( شمشون ) .. يقول فيها :
مَلِّقِيهِ بحسنِكِ المأجورِ
و ادفعيه للانتقامِ الكبيرِ
إنَّ في الحسنِ يا دليلةُ أفعى
كم سمعنا فحيحها في السريرِ

مَلِّقِيهِ ففي أشعةِ عينيكِ
صباحُ الهوى و ليلُ القبورِ
و على ثغركِ الشهيِّ ثمارٌ
حجبتْ شهوةَ الردى في العصيرِ
مَلِّقِيهِ فبينَ نهديكِ غامت
هُوَّةُ الموتِ في الفراشِ الوثيرِ
هُوَّةٌ أطلعت جهنمُ منها
شهواتٍ تفجرت في الصدورِ
مَلِّقِيهِ ففي ملاغمكِ الحُمْرِ
مساحيقُ معدنٍ مصهورِ
يسربُ السمُّ من شفافتِها الحَرَّى
إلى ملمس الردى في الثغورِ
أو مثل قصيدته الشهيرة ( سدوم ) ومنها :
مَغْناكِ مُلتَهِبٌ و كأسُكِ مُتْرَعَة
فاسقي أباكِ الخمرَ و اضطجِعِي معه
لم تُبْقِ في شفتيْكِ لذاتُ الدما
ما تذكرين به حليبَ المُرضِعَة
قومي ادخلي يا بنتَ لوطِ على الخنا
و ازني فإن أباكِ هَيَّأ مضجعَه
إن ترجِعي دمَكِ الشهيَّ لنبعِهِ
كم جدولٍ في الأرضِ راجع منبَعَه
ويتجلى هذا النهم الحسي القائم على مفردات المتاع الجنسي و الاستغراق الجسدي العارم في شعر نزار ؛ الذي يستدعي عالم و قصائد بل و شبح أبي شبكة ؛خاصة في مجموعات نزار الست الأولى حين ينتقي عناوين قصائد ه ؛ فنجدها ؛: ( نهداك - مدنسة الحليب – البغي –شمعة و نهد – إلى ساق – حلمة – همجية الشفتين – ذئبة –المستحمة – مصلوبة النهدين –خصر – مشبوهة الشفتين –أوعية الصديد –إلى مراهقة – القصيدة الشريرة ) حيث بدأت تتلاشى حدتها في مجموعته السابعة ( الرسم بالكلمات ) الذي بدأ الشاعر به مرحلة شعرية جديدة و فارقة .
أما ثالث هؤلاء فهو عمر أبو ريشة الذي أقرَّ نزار بتأثره به . لا بشعره فحب ؛ بل بسيرة حياته العملية التي جعلت نزار ينتظم في منظومة العمل الدبلوماسي اقتفاءً لأثر أبي ريشة الذي تقلد منصب السفير للجمهورية العربية المتحدة ( إبَّان الوحدة بين مصر و سوريا ) في عدة دول .
و عن تأثير أبي ريشة في نزار قباني إبداعيا ؛ فيكفي هنا أن نقف عند قصيدتين من قصائد أبي ريشة تأثر بهما نزار بل لربما استنسخ كلتيهما . الأولى بعنوان ( في الطائرة ) صدَّرها أبو ريشة في ديوانه بالكلمات الآتية : ( كان في رحلة إلى تشيلي ؛ وكانت إلى جانبه حسناء إسبانية تحدثه عن أجدادها القدامى العرب ؛دون أن تعرف جنسية من تُحَدِّث ) :
وَثَبَتْ تستقرِبُ النجمَ مجالا
و تهادتْ تسحبُ الذيلَ اختيالا
و حيالي غادةٌ تلعبُ في
شعرِها المائجِ غنجًا و دلالا
طلعَةٌ ريا ؛ و شيءٌ باهرٌ
أ جمالٌ ؟ جلَّ أن يُسْمَى جمالا
فتبسمتُ لها فابتسَمَتْ
و أجالتْ فيَّ ألحاظًا كسَالَى
و تجاذبنا الأحاديثَ فما
انخفضتْ حِسًّا ولا سَفَّتْ خيالا
قلتُ : يا حسناءُ من أنتِ ؟ و مِنْ
أيِّ دَوْحٍ أفْرَعَ الغصنُ و طالا
فَرَنَتْ شامخةً أحْسَبُها
فوق أنسابِ البرايا تتعالى
و أجابت : أنا مِن أندلُسٍ
جنةِ الدنيا سهولا و جبالا
و جدودي ألمحُ الدهرَ على
ذِكرِهم يطوي جناحيه جلالا
حملوا الشرقَ سناءً و سنا
و تخطُّوا ملعبَ الغربِ نضالا
فنما المجدُ على آثارِهم
و تخطَّى بعدما زالوا الزوالا
هؤلاء الصِّيدُ قوْمِي .. فانتَسِبْ
إنْ تَجِدْ أكرمَ من قومي رجالا
أطرقَ الطرفُ .. و غامت أعيُني
برؤاها .. و تجاهلتُ السؤالا
من المؤكد أنها الإسبانية نفسها التي تعقبت نزار قباني في ساحة الحمراء إبَّان وجوده و عمله الدبلوماسي في مدريد و كتب عنها قصيدته ( غرناطة ) وكان أحرى به أن يهديها إلى مبدعها الأول :
في مدخلِ ( الحمراء ) كان لقاؤنا
ما أطيب اللقيا بلا ميعادِ
عينانِ سوداوان في حجريْهما
تتوالدُ الأبعادُ من أبعادِ
هل أنتِ إسبانيةٌ ؟ ساءلتُها
قالتْ : و في غرناطةٍ ميلادي
غرناطةٌ ! و صَحَتْ قرونٌ سبعَةٌ
في تيْنك العينين بعد رقادِ
ما أغربَ التاريخَ ! كيف أعادني
لحفيدةٍ سمراءَ من أحفادي
......
و مشَيْتُ مثل الطفلِ خلف دليلتي
و ورائيَ التاريخُ كومُ رمادِ
قالتْ : هنا الحمراء زهوُ جدودنا
فاقراْ على جدرانِها أمجادي
أمجادُها !! و مَسَحتُ جرحًا نازفًا
و مسحتُ جُرْحًا آخَرًا بفؤادي
عانقتُ فيها عندما و دَّعتُها
رجلأً يُسَمَّى ( طارقَ بن زيادِ )
.......
ولا مجال هنا للمقارنة بين النصيْن ؛ فذلك يحتاج إلى دراسة مستقلة متأنية ؛ إنما أردنا أن نرد السبق لصاحبه فما من أحد يقرأ قصيدة نزار إلا و استدعت ذاكرته ( النص الآخر) الكامن المتحفز في ديوان أبي ريشة ..
و لعمر أبي ريشة قصيدة أخرى قصيرة وردت في ديوانه تحت عنوان ( هكذا ) و قد نسجها شاعرنا بحذقٍ بالغ و تكثيف مبهر ؛ و تعالج القضية الفلسطينية و تعرضها بحنكةٍ و مهارة ؛ والقصيدة أرَّخها الشاعر بعام 1954 حين كانت بريطانيا تضع يدها على الخليج العربي كمحميات ؛ و قد صدَّرَ الشاعر قصيدته بهذه الكلمات : ( في ليلة واحدة أنفق أحد رعايا المحميات البريطانية ستين ألف دولار على عشيقته ) :
صاح : يا عبدُ .. فَرَفَّ الطّيبُ
و استعر الكاسُ و ضجَّ المضجعُ
منتهى دُنياهُ نهدٌ شَرِسٌ
و فَمٌ سمحٌ و خصرٌ طَيِّعُ
بَدَوِيٌ ؛ أورَقَ الصخرُ له
و جرى بالسلسبيل ِ البلقَعُ
فإذا النخوَةُ و الكِبْرُ على
ترف الأيامِ جرحٌ موجِعُ
والخيامُ الشمُّ مالتْ و هَوَتْ
و عَوَت فيها الرياحُ الأربَعُ
........
قال : ياحسناءُ ما شِئتِ اطلبي
فكلانا بالغوالي مولعُ
أختُكِ الشقراءُ مَدَّتْ كَفَّها
فاكتسى من كلِّ نجمٍ إصْبَعُ
فانتقي أكرمَ ما يهفو له
معصَمٌ غَضٌ و جِيدٌ أتلعُ
و تلاشى الطيبُ من مخدعِهِ
و تولاهُ السُّباتُ الممتِعُ
و الذليلُ العبدُ دون البا
بِ لا يُغمضُ الطرفَ و لا يضطجِعُ
و البطولاتُ على غربتها
في مغانينا جِياعٌ خُشَّعُ
هكذا تُقْتَحَمُ القدسُ على
غاصبيها هكذا تُسْتَرجَعُ!!
وحين نشر نزار قباني قصيدته ( الحب و البترول ) صرح قائلا : (إن قصيدتي الحب والبترول مثلاً هي صورة للإقطاع العاطفي وللعلاقة اللا أخلاقية التي تقوم بين رجل يتملك بدفتر شيكاته وامرأة تُستملك بسنابل شعرها الذهبي وطفولة نهديها..) و قال فيها :
متى تفهـــــم؟
أيا جملا من الصحراء لم يلجــــم
ويا من يأكل الجدريُّ منه الوجـه والمعصــــم
بأني لن أكون هنا رمــــادا في سيجـارتك
ورأسا بين آلاف الرؤوس على مخــــداتك
وتمثالا تزيد عليـــه في حمـــى مزاداتـــك
ونهـدا فوق مرمره تسجل شكل بصمــاتك
متى تفهم00؟ بأنك لن تخدرني بجاهك أو إماراتك
ولن تتملك الدنيا بنفطك وامتيازاتك
وبالبترول يعبق من عباءاتك
وبالعربات تطرحها على قدميْ أميراتك
بلا عدد فأين ظهـــور ناقاتك ؟
وأين الوشم فوق يديك ؟ أين ثقوب خيماتك؟
أيا متشقق القدمين يا عبد انفعالاتك
ويا من صارت الزوجات بعضا من هواياتك
تكدسهن بالعشرات فوق فراش لذاتك
تحنطهن كالحشرات في جدران صالاتك
متى تفهـــم ؟
لاشك أن القصيدة حتى هذا المقطع توحي بما أشار إليه نزار ولكن حين نستمر في قراءتها تعطينا بُعْدًا سياسيا لا نستطيع الفرار من قبضته:
تمرغ يا أمير النفط فوق وحول لذاتك
كممسحةٍ .. تمرغ في ضلالاتك
لك البترول فاعْصُره على قدميْ عشيقاتك
كهوف الليل فى باريس قد قتلت مروءاتك
على أقدام مومسة هناك دفنت ثاراتك
فبعتَ القدس بعت الله بعت رماد أمواتك
كأن حراب اسرائيل لم تجهض شقيقاتك
ولم تهدم منازلنا
ولم تحرق مصاحفنا
ولا راياتها ارتفعت على أشلاء راياتك
كأن جميع من صلبوا
على الأشجار فى حيفا .. وفى يافا .. وبئر السبع
ليسوا من سلالاتك
تغوص القدس في دمها
وأنت صريع شهواتك
تنام كأنما المأساة ليست بعض مأساتك
متى تفهم ...؟
متى يستيقظ الإنسـان فى ذاتك ؟؟!
و يبدو أن نزار بإشارته تلك إلى (محاربة الإقطاع العاطفي) فى هذه القصيدة يذرُّ رمادا في العيون قصدا منه أن ينفى ملامح وشبهة تسرب قصيدة عمر أبى ريشة (هكذا) إلى قصيدته المطولة . ونقول إن صرخة نزار في قصيدته ؛ التي حصرها في إطار (محاربة الإقطاع العاطفي) إن هذا التحديد لم يفقدها البعد السياسي الذي تنتمي إليه بشده رغم هذه التحديد الجائر .. و إنما جاء على حساب البعد الاجتماعي الذي حرص على محاولة التمويه به .
و الشعر الفرنسي أيضا!!
استطاعت فرنسا ؛ كعادتها ؛ أن تفرض ثقافتها و لغتها على سوريا خلال فترة وقوعها في قبضة الانتداب الفرنسي ؛ وفي الكلية العلمية الوطنية تلقى نزار و إخوته علوم دراسته الأولي باللغة الفرنسية ؛ و هو ما سهَّل و أتاح له إتقانها و الاطلاع على آدابها ؛ خاصة الشعر الفرنسي يقول نزار عن هذه الفترة : " ..كانت اللغة الفرنسية لغتي الثانية ؛ لأن نظام التعليم في زمن الانتداب كان يعطي اللغة الفرنسية مركزا متفوقا ؛ و يجبرنا على إتقانها كلاما و كتابة . و هكذا كان أساتذتنا يأتون من فرنسا ؛ و كانت كتب القراءة و النصوص و الشعر و العلوم و الرياضيات و التاريخ كلها كتبا فرنسية و مؤلفة وفق المنهاج الفرنسي.. ".
في المرحلة الأولى من عطائه الشعري التي بدأت ب ( قالت لي السمراء ) و انتهت بصدور مجموعته السابعة ( الرسم بالكلمات ) وضح تأثره ببودلير والشعراء الفرنسيين كما سنجد فى قصيدة (مع جريدة) التى تكاد تكون هى بعينها قصيدة (إفطار الصباح) لجاك بريفير. فقصيدة مع نزار من ديوانه الخامس( قصائد) يقول فيها :
أخرج من معطفه جريدة
وعلبة الثقاب
ودون أن يلاحظ اضطرابي
تناول السكر من أمامي
ذوَّب فى الفنجان قطعتين
ذوبني .. ذوب قطعتين
وبعد لحظتين
ودون أن يراني
ويعرف الشوق الذي اعتراني
تناول المعطف من أمامي
وغاب في الزحام
مخلفا وراءه جريدة
وحيدة مثلى أنا وحيدة
أما قصيدة جاك بريفير (إفطار الصباح) فتأتي على هذا النحو :
وضع القهوة في الفنجان ..
وضع اللبن في فنجان القهوة
وضع السكر في القهوة باللبن ..
وبالمعلقة الصغيرة حرك ..
وشرب القهوة باللبن ..
ثم حط الفنجان دون أن يكلمني
أشعل سيجارة .. وصنع دوائر بالدخان ..
ونفض الرماد فى المطفأة .. دون أن يكلمني
دون أن ينظر إلى
نهض .. ووضع قبعته على رأسه ..
وارتدى معطفه الواقي من المطر ..
لأن المطر كان يسقط ..
وانصرف تحت المطر دون كلمة ..
دون أن ينظر إلىْ ..
أما أنا فاخذت رأسي فى يدي .. وبكيت ..
(ترجمة أنور لوقا )
و لم ينج ُ بودلير ولا ديوانه الشهير ( أزهار الشر ) من إغارات نزار على عالمه و أجوائه و يكفي هنا أن نحيل القارئ إلى أبيات من قصيدة نزار( إلى عجوز) من ديوانه الأول ( قالت لي السمراء ) :
عبثًا جهودُكِ .. بي الغريزةُ مطفأة
إني شبعتُكِ جيفَةً مُتَقَيَّئة
مهما كتمتِ ففي عيونك رغبةٌ
تدعو ؛ و في شفتيكِ تحترقُ امرأة
إني قرفتكِ ناهدا متدلِّيًا
و قرفتُ تلك الحلمة المتهرئة
شفتاكِ عنقودا دمٍ و حرارةٍ
شفَةً أقبِّلُ أم أقبلُ مدفأة ؟
و الإبْطُ .. أيةُ حفرَةٍ ملعونةٍ
الدودُ يملأ قعرَها و الأوبئة

و بعد...
يقول الشاعر الفيلسوف الناقد بول فاليري : " ما الليثُ إلا بضع خِرافٍ مهضومة "..
وفي النهاية لا يسعنا إلا أن نقول : و يا لها من خرافٍ .. و يا له من ليث !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شكرا لك على تعليقك في الموقع الرسمي للشاعر و الكاتب المصري د.عبدالغنى مصطفي عبدالغني (رحمه الله)

اعلان

للإعلان على الموقع الرسمي للدكتور عبدالغني مصطفي